الثلاثاء، 13 يوليو 2010

حرف الألف


وكأنه الأمس ..حين تشكلت على صفحة الورقة بركة صغيرة من الدموع تساقطت تباعاً من عيونه الملتاعة وهو يحاول أن يجد أي مساعدة ..


كانت يدة المرتعشة تمسك القلم الرصاصي الطويل بصعوبة بالغة ، بأصابع نحيفة كأصابع الأشباح ...اليوم هو يومه الأول في المدرسة والمعلم يقف في منتصف الفصل بصوته الجهوري المزعج يطلب من الأطفال كتابة أسمائهم على أول ورقة من ورقات الكراسة الصغيرة وكأنه من الطبيعي أن تعرف كتابة اسمك في أول أيام الدراسة!!!


بدأ العديد من حوله يكتبون بهمه وكأنهم تعودوا ذلك منذ سنين ..


كان هناك القليل من الأطفال يبكون مثله ولكنه كان مختلفاً عنهم فهو يبكي منذ سنين .


أو لنقل فهو خائف منذ سنين ..هي سنوات عمره الصغير التي لا تتعدى أصابع اليد ولكنها بالنسبة له عمراً امتلأ بالخوف والقلق والبكاء ...وحيداً بلا أم ..يستيقظ ليجد كل يوم امرأة جديدة تقوم برعايته قد تكون خادمة أو جارة أو قريبة مع العديد من الصغار الآخرين ،السعداء، النشيطين الذين لا يكلون من مضايقته هو الطفل الغريب النحيف ..


حتى يعود والده من العمل فيعودان الى بيت أبعد ما يكون عن الدفء ..والد لا يتكلم إلا بضع كلمات أكثرها في صيغة الأمر مقتضبة خافتة ككل مظاهر حياته ..




كان يحس أن والده حزين مثله ..وحيد مثله ..و يتعجب لماذا لا يحتضنه أو يبتسم في وجهه أو يداعب وجنتيه مثل الآباء الآخرين !


لقد تعود في النهاية على هذا الوضع حتى جاءت أيام المدرسة فانقلبت حياته رأساً على عقب ....


كانت كتابة اسمه بالنسبة له معجزة خالصة هو الذي لم يخط خطاً من قبل أو يرسم أو حتى يشخبط مثل بقية الأطفال ..كان يتلفت حوله في رعب لعله يجد المساعدة ..ولكنه لم يجد إلا نظرات حادة من معلمه ذو الكرش الضخم كصقر ينتظر الإنقضاض على فريسته.


حتى جاء الأستاذ فريد


لا زال يتلذذ بتذكر تلك اللحظة كأول ثانية سعيدة في حياته ..ياللروعة ..الأستاذ فريد بشعره البني المنسق وعيونه الحنونة العطوفة وملامحه الطيبة كالعسل ،دخل الفصل كأنه شعاع من الشمس فسرى الدفء في أوصاله الصغيرة ..بابتسامة منعشة كحضن الأم وكأنه هدية من الله اتجه نحوه وكأنه يعرفه منذ مولده وبصوت خفيض طمأنه بكلمات واضحة كان صوته حنوناً مثل ابتسامته ..وبيد قوية أمسك يده المرتعشة وبدأ يكتب معه حرف الألف ، الذي ظهر على الصفحة معوجاً كعود قمح عصفت به الرياح بهمزة طائرة تبتعد عنه كأنها تهرب ،ولكنه كان حرف ألف ..


أول حرف ألف يكتبه في حياته


وأول حروف اسمه ..الأستاذ فريد ..يالصبر الأستاذ فريد..لقد علمه كتابة كل الحروف التي تعانقت فيما بعد لتكون كلمات ثم جمل ....الأستاذ فريد لم يعلمه فقط كتابة الكلمات بل علمه كيف يكون قوياً ،آمناً ،مبدعاً وقبل كل ذلك علمه كيف يحب والده الصامت الحزين ..


لقد كان الأستاذ فريد هو رحمة الله التي أرسلها اليه


ومنذ حرف الألف المعوج انطلق يكتب الكلمات والجمل التي زينت مواضيع انشاء متقنة وآلاف الاجابات في امتحانات حصل في أغلبها على الدرجات النهائية ..أبحاث جامعية ومشاريع مميزة ،شهادتي ماجستير و شهادة دكتوراة ..ثم توقيعاته كمهندس متميز في شركة عملاقة..وتوقيعاتة في عقد زواجه وشهادات درجات أبنائه ..


كان خطه البديع يميزه كما تميزه شخصيته المحببة .


كل هذه الأوراق كانت تذكره بحرف الألف المعوج وبالأستاذ فريد الذي لم تنقطع الصلة بينهما منذ أكثر من خمسين سنة .....فقد فيها الأستاذ فريد الكثير من قوته،صحته ،شعره وأسنانه لكنه لم يفقد ابتسامته المشرقة ونصائحه الغالية وتوجيهاته مع دفء مشاعره وتهليله في كل مرة يرى تلميذه الصغير الخائف الضئيل وقد أصبح رجلاً ذو شأن ،وسيماً ..قوياً واثقاً في إمكاناته ومقدرته ..


لقد صار التلميذ هو من يساعد استاذه بيده القويه على صعود السلم وعبور الطريق والذهاب إلى الطبيب ،لقد صار هو من يحنو عليه ويربت على كتفه ويذكره بمواعيد الدواء .


واليوم ارتعشت يد التلميذ مرة أخرى وهو يكتب حرف الألف فظهر هزيلاً معوجاً بهمزة طائرة وكأنه أول حرف يكتبه ..


"أنعي اليكم معلمي العزيز الفريد ..فريد ..


وقبل أن يكمل كانت بركة صغيرة من الدموع قد تشكلت على صفحة الورقة ...


الاثنين، 5 يوليو 2010

المرج الأخضر


عندما كانت تتفاقم سخافات البشر وتعلوا انتقاداتهم وتحيطه افواههم بالصياح ..وعندما كان الصغار يمنعونه من لعب الحجلة معهم ..عندما كان المعلم يعنفه لأنه لم يقم بواجبه..


عندما كان يحزن أو يبكي أو يغضب أو تحيطه الهموم كغيوم تخنق...كان يسارع للمرج القريب ..يستنشق أنفاساً شفافة ويودع كل هموم اليوم..


كان المرج الأخضر يساعده على استقبال الغد و بعد الغد ..كان المرج الخالي من كل بشر العالم ،يمتلئ بزهور وطيور وحشائش خضراء تتسلل من بين أجمل صخر الكون..ديدان وفراشات،شرانق ما زالت في طور التكوين ..




كان المرج الأخضر كالدنيا في أول سنواتها




كذب،حقد،كره ونميمة كلمات سود لم يسمعها في المرج الأخضر...


كان يجلس..يفترش حشائشه ويتأمل ابداع الخالق .....فتذوب كل مشاكله ويعود رقيقاً منتعشاً ليكمل مسيرة سنوات العمر.


الآن وبعد مرور السنوات..سنوات لم يتخللها جلوس في المرج الأخضر أو حتى رؤيته.




فالمرج الأخضر في البلدة..وهو الآن بعيد في مدينة لا تحتضن أي مروج خضراء..


الآن كم يشتاق لجلسته في المرج ..لديه هموم كتلال ومشاكل تشغل كل مساحات النفس..يتمنى لو يلقيها في المرج الأخضر..




ولكن في داخله خوف أكبر..


أن يعبر ساعات السفر المحدودة للبلدة فيجد أن المرج الأخضر أضحى طيفاً في ذاكرته..




(لكل منا مرج أخضر يخاف أن ينفض التراب عنه فيكتشف أن الصورة التي رسمها في خياله كانت أجمل بكثير)