الجمعة، 12 يونيو 2009

علبة التونة


للمرة الخمسين في اسبوع واحد ،سمعت تلك العبارة المعتادة التي أصبحت في بيتنا مثل الأعلان التجاري أو المثل الشعبي :

"اذا لم تبع السيارة اليوم لن تبيعها أبدا !"

قالتها زوجتي بصوتها القادم من المطبخ ويبدو أنها كانت تقطع بصلة لأنها تنهدت قبل أن تنطق" أبدا "..كانت تتكلم عن سيارتي الفولفو التي أصبحت على حد قولها تشبه علبة التونة.. المفتوحة.وأكملت زوجتي وهي تحمل كومة من الملابس "سنبيع السيارة وبثمنها نعيد طلاء الشقة ونشتري فوط وبياضات ونغير الستائر ونشتري سجادتين و طبعاً نذهب لأداء العمرة و نشتري هدايا للأولاد ."

آه ..سيارتي الفولفو..آه لو تعلمي زوجتي ،علبة التونة تلك كم تعني لي .

خلعت نظارتي الطبية ،نظارة القراءة بعد أن انتهيت من جرائد اليوم جميعاً..المقالات والعناوين والعواميدوالنكت وحتى باب الحظ ،إنه طقسي اليومي ،يقتل الأيام يوماً فيوم حتى يأتي يوم الجمعة يوم زيارة أولادي وأحفادي يومها أقرأالجرائد ليلاً ،وطوال يوم الجمعة أظل أتحدث عن الأخبار التي قرأتها كأنها آراء شخصية أو معلومات خاصة لم يقرأها أحد من قبل،وبين الحين والآخر ،أنظر إليها من فوق سور شرفتنا أطمئن عليها (علبة التونة) تقف مطمئنة على الرصيف تفترش الأرض بعجلاتها الأربعة وبطنها الواسعةو تبتسم في سعادة هادئة ....سعادة من أدى رسالته عبر سنين وبدأ حياة الراحة ..

هل تنتظر مني الخيانة ؟ هل تستطيع أن تبدأ حياة شاقة مع أسرة جديدة ،بعد أن تعودت لمساتي الرقيقة لمقودها وضغطتي الحانية على مكابحها وانتظاراتي المتسامحة عندما لا تبدأفي الدوران فوراً؟

وقبل كل ذلك بعد أن تعودت على شمس الصباح الدافئة في شارعنا الهادئ، تظللها شجرة الكافور العجوز ويطربها صوت عم سيد بائع الفول وأبواق حافلات السيارات تأتي لتأخذ أطفال شارعنا..تنظر إليهم علبة التونة ..سيارتي ..بعيون ناعسة ثم تكمل نومها اللذيذ الذي هو نشاطها الوحيد منذ أن سكنتني أمراض الشيخوخة ولم أعد أركبها إلا في أحيان نادرة .

هل ستفتقدها أوراق الخريف المتساقطة من الأشجاريحملها الهواء كأنه يربت بها على ظهر سيارتي كحيوان أليف اعتاد التدليل ..

وفي ليالي الشتاء الباردة هل سأتذكر بشوق كم اعتدت أن أهجر قربة المياه الساخنة وأزيح بطانيتي الصوفية وألبس غطاء الرأس والروب الدافئ ثم أضع نظارتي وأنظر من بين فتحات الشيش أطمئن أنها (علبة التونة)دافئة مثلي تحت غطائها المحبوك ،أخلعه عنها عندما يأتي الصيف لأتمتع بمنظرها تأخذ حمامها الأسبوعي من عم علي البواب ،ثم تلمع ببهاء تحت أشعة الأصيل .

"حاضر يا نوال سألبس قميصي لأقابل المشتري"قلت بصوت يائس ثم نزلت السلم ببطء أتلكأوأتكئ على السور ...أنزل درجة ..درجة ..أتمنى لو كنا نسكن في الدور العشرين ولكننا في الدور الثاني ،وهاهو المشتري ينظر في توجس ،يتفحص علبة التونة المطمئنة السعيدة التي أبتسمت حين وصلت ،وفتحت بابها فسمعتها تضحك في دلال وكسل وأدرت محركها فدارت من أول مرة رغم طول غيابي ..وأصطحبت سيارتي العزيزة بعيداًتاركاًالمشتري ورائي ينظر إلي في تعجب وصورته تصغر في مرآة سيارتي كلما ابتعدت عنة حتى أصبحت المرآة صافية كبركة ماء...

وعند أول ناصية أخرجت من جيبي ورقة صغيرة وقلم وكتبت:

زوجتي العزيزة نوال ،بعد التحية ..

أنا أحب آثار أصابع أحفادي وأقدامهم على حوائط البيت ،تذكرني بأن حياة قادمة في آخر الأسبوع ...

وأحب ملاءاتي القديمة التي أهلكتها حرارة الغسيل فصارت باهتة ككل الصور ..

وأنا يا زوجتي العزيزة أحب كثيراًأن أجلس في سيارتي حتى لو عدت بدون الذهاب إلى أي مكان..

وأنا يا نوال منذ خاصمت السيجارة كنت أضع نقودها في علبة صفيحيةلنستطيع الذهاب إلى العمرة يوماً ما ..

لذلك يا زوجتي العزيزة انا ..أبدا ..لن أستطيع أن أبيع علبة التونة