يومها لم أكن أدرك من معاني الموت سوى رائحة بقايا القهوة تنبعث من فناجين متناثرة في أنحاء مطبخنا العتيق ،الذي تكسرت العديد من بلاطاته وامتدت فروع الأشجار من نافذته الضيقة ،تلامس بداية السقف المتساقط .
كنت أرى السواد يملأ الغرف ،يتحرك ككتلة آدمية واحدة ترافقها رائحة هي مزيج من الدموع والعرق وشعور مبهم لم أدركه في ذلك الوقت ..
لم أكن أدرك أن من نفقده يذهب إلى الأبد ....لم أكن أعرف إلى أين ذهبت جدتي ،ولو أنني إفتقدت بشدة لمسات يديها الحانية المرتعشة وقبلاتها الدافقه الدافئة ورائحتها الأصيلة وأعمالها البيتية المميزة ،بداية من فطائر تعبق الجو باللذة ونهاية بمفارش مطرزة بورود زاهية ..
كانت تتقن كل الأشياء لدرجة أنني كنت أحسهاأصل الأشياء..
بعدها كبرت لأدرك أن الموت حقيقة تكبر معي لتتسع دائرة من يضمهم تحت اسم المرحوم أو المرحومة ..أدركت أيضاً إلى أين يذهب هؤلاء فداومت قدر إستطاعتي على العبادات المختلفة وأستشعرت تدريجياً ،بل توغل في ذلك الشعور الذي لم أفهمه من قبل"إحساس الإنسحاب "....
أن ينسحب من تعودت على صحبته من حياتك ويترك أشياءه في طريقك تزيد من ألمك كلما تذكرته معها ..
أن تنسحب معه لكنته وتعبيراته المميزة وحركاته ورائحته وصوته و إيقاع خطواته وأهتماماته و مشاعر حبه و كرهه وفرحه وحزنه لتبقى في مخيلتك صور عنه، تتلاشى بمرور الوقت ..
هكذا انسحب معظم رفقاء القهوة تاركين وراءهم أصوات إصطدام النرد وإحتكاك الملاعق بقيعان أكواب الشاي وغيرهم جيران ألفت أصواتهم وصورهم حتى أصبحت من معالم اليوم ،كزقزقة العصافير وتطاير ملابسهم المغسولة فوق الحبال الممتدة ..
هكذا أيضاً انسحبت رفيقتي لأتذكر صحبتها بآلاف الاشياء ويضمني عشي وحدي ليغمرني إحساس الإفتقاد ..
اليوم بدأت أحس أن الدنيا بدأت تخلو تدريجياً من ناس زمان ،ذلك الزمن الذي هو زمن طفولتي و شبابي و نضجي ،ذلك الزمن الذي بدأ ينسحب هو الآخر ليطوي معه صفحاتي الأخيرة .